تاريخ القهوة ونشأتها
القهوة أكثر مشروب – بخلاف الماء – يشربه الناس في جميع أنحاء العالم. وعلى اعتبار أن القهوة تنمو في القارتين الأمريكيتين وأفريقيا وآسيا ويشربها الجميع في كل مكان، فقد تندهش عندما تعلم أن معظم القهوة التي نشربها يمكن أن يرجع مصدرها إلى نبات واحد.
القهوة التي تشربها الآن قد تكون من البرازيل أو إثيوبيا أو اليمن أو بنما – أو واحدة من الثمانين دولة أو ما يقرب من ذلك التي تنتج القهوة في جميع أنحاء العالم. ولكن لكي تفهم من أين تأتي القهوة، تحتاج إلى أن تعرف شيئين: ما هو منشأ النبات، وفي أي مكان حُمِّصت القهوة أولًا، وطُحنت، وتحولت إلى مشروب.
سوف نبدأ بنبات القهوة. هناك أكثر من 100 نوع معروف من أشجار القهوة – ولكننا لا نشرب بكميات كبيرة إلا نوعين فقط: أرابيكا (البن العربي) وروبوستا (البن القصبي). وتعتبر قهوة أرابيكا أكثر نوع نشربه من بين السلالتين.
أرابيكا لها نكهة أخف من الروبوستا، ولكن إنتاجها مُكلِّف بدرجة أكبر، لذلك فسعرها أغلى. أما الروبوستا، ابنة عم الأرابيكا الرخيصة، فهي عادة ما تستخدم في توليفات القهوة على الرغم من أن جودة الروبوستا الموجودة اليوم في تحسن دائم.
أرابيكا هي أصل كل أنواع القهوة، وهي أول نوع اكتشفه الإنسان وبدأ في شربها. وعلى الجانب الآخر، فإن الروبوستا وافدٌ جديد نسبيًا – ولذلك فإن تاريخ القهوة يبدأ بتاريخ أرابيكا.
منشأ قهوة أرابيكا
نشأت قهوة أرابيكا في إثيوبيا حيث تنمو أشجار القهوة في البرية في غابات الجبال العالية. عرف شعبُ الأورومو في إثيوبيا آثارَ القهوة منذ فترة طويلة قبل أن يفكِّر أي أحد في استخدامها كمشروب، وكانوا يأكلون الثمار أو يمضغون الأوراق والبذور النيئة لتمدهم بالقوة في المعارك أو في الرحلات الطويلة.
ووفقًا لدين الأسلاف لدى شعب الأورومو، عندما مات أول إنسان، بلل الإله واقا قبره بدموعه. وبدأ أول نبات قهوة في النمو في المكان الذي سقطت فيه دموعه.
تذكرنا هذه القصة القديمة بأصل قهوة أرابيكا كنبات بري. فقد وجد شعب الأورومو أشجار القهوة مُنقَّطة في الغابة في بلادهم الأم وقبلوا بها كهدايا من الإله.
وقد بدأت أرابيكا حياتها كوسيط بين البن القصبي وبن يوجنيويديس وهما نوعان من القهوة لا يمكن التزاوج بينهم طبيعيًا. الحدث الذي تسبب في التقاء هذين النوعين نادرٌ للغاية حتى أنه يكاد أن يحدث مرة واحدة مما يعني أن جميع أنواع قهوة أرابيكا تنحدر من نبات واحد.
يُقدِّر العلماء أن أول شجرة قهوة أرابيكا نمت في إثيوبيا في الفترة الزمنية بين 10,000 أو 665,000 سنة مضت. وهذا يجعل أرابيكا نوع حديث للغاية ويعني أن جميع أشجار أرابيكا تنتمي إلى بعضها بصورة وثيقة.
أثناء القرن السادس، عبرت إمبراطورية أكسوم في إثيوبيا البحر الأحمر وغزت اليمن، وأحضرت القهوة معها. وبينما طُردَ الإثيوبيون، بقيت القهوةُ بعدهم وازدهرت في اليمن.
أول من شرب القهوة
تخبرنا أسطورة كالدي بقصة اكتشاف القهوة وأول مرة حُمِّصت فيها وحُضِّرت. وفقًا للأسطورة، لاحظ كالدي، وهو راعي ماعز صغير السن، أنه عندما تأكل الماعز الكرز من شجرة معينة، يصبحون نشطاء على غير العادة ويقفزون ويرقصون في المكان. فجرَّب أكْل الثمار بنفسه وكانت نتيجة الطاقة المتفجرة التي منحتها له الثمرة أنه ظل يرقص أيضًا مع الماعز.
وعندما مر إمامٌ بكالدي رآه وهو يرقص مع ماعزه، فتصور أن هذه الفواكه من عمل الشيطان. فألقاها الإمام في النار، فشم رائحة رائعة ناتجة من التحميص الطازج للقهوة. غيَّرت الرائحةُ المبهجة للقهوة رأيَ الإمام عن الحبوب، ونَزَعَهم من النار وألقاهم في الماء لتجنب احتراقهم بالكامل. وبهذا، حضَّر الإمامُ بالصدفة أول كوب قهوة.
عندما اكتشف الإمامُ الشعور بالانتباه والسكينة الذي حصل عليه من شرب القهوة، سرعان ما شارك السرَّ مع الشيوخ الصوفيين في المسجد القريب. أصبح شرب القهوة جزء مهم من صلوات الشيوخ الليلية، وبهذا انتشرت القهوة في العالم الإسلامي.
وحتى لو لم تكن أسطورة كالدي حقيقية، فالحقيقة هي أن الشيوخ الصوفيين في اليمن هم أول من حضَّر القهوة وشربها. إن زمن اكتشافهم بالضبط لآثار القهوة غير مؤكد، ولكن أصبح شرب القهوة منتشرًا بحلول القرن الخامس عشر في اليمن.
كان مشروب الشيوخ الليلي، القهوة، يُحضَّر في الأصل من القات، وهي أوراق نبات مُحفِّز آخر ينمو في إثيوبيا. في النهاية، أفسحت أوراقُ القات الطريقَ لبذور القهوة المُحمَّصة، ووِلِدَت القهوة التي نعرفها اليوم.
القهوة تسافر عبر العالم
أصبحت القهوة مشهورة في التجمعات الاجتماعية وفي أوقات الصلاة الليلية، وانتشرت القهوة في العالم الإسلامي أثناء القرن الخامس عشر والسادس عشر. ووصلت القهوة إلى أوروبا من خلال الإمبراطورية العثمانية فيما تُعرف اليوم بتركيا، واُنشأ أول مقهى في أوروبا في فينيسيا في عام 1645.
بسرعة أصبح المشروب الجديد رائجًا للغاية، وازدهرت تجارة القهوة من خلال ميناء المخا من اليمن – لدرجة أن كلمة الموكا أصبحت مرادفة للقهوة.
كان اليمنيون حريصون على تصدير البذور المجففة فقط التي لا يمكن زراعتها وإنبات أشجار جديدة منها. وتخبرنا إحدى الأساطير عن حاج صوفي يدعى بابا بودان أحضر معه سبع حبات قهوة إلى الهند مخبأة في لحيته، وبهذا تمكن من إنشاء أول مزرعة قهوة خارج اليمن. وبخلاف هذا، فقد حرس اليمنيون أشجارهم والبذور الحية عن كثب لكي يتحكُّموا في تجارة القهوة في أوروبا.
في النهاية استطاع تاجر هولندي تهريب بعض النباتات الحية خارج البلاد وزراعتهم في صوبة زجاجية في حدائق أمستردام النباتية. ومن هناك، أرسل الهولنديون البذور إلى مستعمراتهم في جاوة وسورينام وبذلك نشأت أول سلالة تجارية من القهوة تُسمى تيبيكا.
في وقت لاحق، وصلت أشجار القهوة إلى جزيرة بوربون المعروفة الآن باسم جزيرة ريونيون. وأنتجت الأشجار التي زُرعت في بوربون محصولًا أعلى من التيبيكا، ولذلك أُرسِلت بذورها إلى جميع أنحاء العالم. وقد عُرفت هذه السلالة من القهوة باسم البوربون.
تنحدر الأغلبية العظمى من القهوة التي تُزرع حول العالم اليوم من هاتين السلالتين الشهيرتين. وقد اُكتشف الكثير من السلالات أو خُلِّقت بنظام التهجين منذ ذلك الحين – لكن ينحدر معظم السلالات من التيبيكا أو البوربون أو كليهما. وهذا يعني أن التنوعَ الجيني للقهوة تنوعٌ بسيط للغاية – وهو أمر مقلق لمستقبل القهوة عندما تُهدَّد القهوةُ بالآفات والأمراض وتغير المناخ.
منشأ قهوة الروبوستا
منشأ قهوة الروبوستا هو الغابات المطيرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية في غرب أفريقيا. وفي هذه الظروف الجوية الدافئة والرطبة، تحتاج قهوة الروبوستا للدفاع عن نفسها من الحشرات. ولهذا، فهي تحتوي على قدر أكبر بكثير من الكافيين والمركبات المُرَّة الأخرى التي يكون لها تأثير سام للحشرات. وهذا الأمر يجعلها أقوى وأسهل للإنبات، لكن في الوقت نفسه يجعلها أقوى وبمذاق أكثر مرارة.
للأسف، فُقِد كل ما عرفه السكان المحليون عن شجرة قهوة الروبوستا. واكتشف الأوروبيون شجرة الروبوستا لأول مرة في القرن التاسع عشر وأرسلوها للمزارع في البرازيل وإندونيسيا والهند للحصول على مصدر أرخص للقهوة.
ولذلك فإن قهوة الأرابيكا أقدم بمئات السنين من الروبوستا فيما يتعلق بمتى حُمِّصت واستخدمت لتحضير المشروب لأول مرة. بيد أن شجرة الروبوستا أقدم بمراحل. في الواقع، فإن شجرةَ الروبوستا أحدُ الآباء التي انحدرت منها شجرة الأرابيكا منذ قديم الأزل.
وبالمناسبة، فالأب الآخر لشجرة الأرابيكا، المعروف باسم بن يوجنيويديس، يتميز بمذاق حلو وبدأ مؤخرًا في الظهور في مسابقات القهوة. وهو صعب الإنبات، ولذلك، فإنه نادر وغالي. لكنه يستحق التجربة إذا سنحت لك الفرصة لتناوله.
من أين تأتي القهوة التي تشربها؟
دولة البرازيل أكبر منتج للقهوة في يومنا هذا، وتنتج حوالي ثلث القهوة الموجودة في العالم. وتنتج البرازيل في الغالب قهوة الأرابيكا، لكن حوالي 10% من المحاصيل يتكون من قهوة الروبوستا الأرخص في السعر.
بينما تُعرف البرازيلُ كأكبر منتج للقهوة، قد يتفاجأ البعض بمن هي ثاني أكبر منتج للقهوة حول العالم: فيتنام. بدأت صناعة القهوة في فيتنام بالازدهار في أواخر التسعينات من القرن الماضي بعد أن استثمرت الحكومة بدرجة كبيرة في زراعة البن. ويكاد يكون كل إنتاج فيتنام من قهوة الروبوستا، واستطاعت فيتنام في وقت قصير للغاية أن تصبح ثاني أكبر منتج للقهوة في العالم.
إذا احتسبنا كليهما، فإن البرازيل وفيتنام ينتجان أكثر من نصف البن المزروع في العالم. ويُنتَج الباقي من الدول الأخرى في المناطق الاستوائية. وتنمو قهوة الأرابيكا على أفضل وجه في المرتفعات العالية؛ لذلك، فإنها تُزرع في الدول التي تحتوي على الكثير من المناطق الجبلية، بينما لا تتأثر كثيرًا قهوة الروبوستا بمكان الزراعة. وأهم دول منتجة للقهوة هي كولومبيا وهندوراس والمكسيك وبيرو في القارتين الأمريكيتين، وإندونيسيا والهند في آسيا، وإثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وكينيا في أفريقيا.
طرق التحضير الحديثة
في الماضي كانت تُحضر القهوة في وعاء وتُغلى مع الماء على لهب مباشر – وهي طريقة ليست مختلفة كثيرًا عن طريقة تحضير القهوة العربية في يومنا هذا. وبالتالي، فإن القهوة العربية قريبة جدًا لطريقة التحضير الأصلية للقهوة. لذلك، يمتد تاريخ القهوة العربية لمئات السنين أو أكثر.
عندما وصلت القهوة لتركيا في القرن السادس عشر، يُقال أن خدم السلطان سليمان القانوني اخترعوا الركوة كوسيلة لتحضير القهوة للسلطان سريعًا. وعندما انتشرت القهوة من تركيا لأوروبا، أصبحت الركوة أكثر طرق التحضير انتشارًا في تلك البلاد.
لم يبدأ الفرنسيون استخدام أنسجة الكتان لتصفية القهوة المطحونة في محاولة منهم لتحضير مشروب أخف إلا في القرن الثامن عشر وبدأوا في خلط القهوة مع الحليب لتخفيف الطعم.
من ناحية أخرى، فإن الفلاتر الورقية اختراعٌ حديث على خلاف المتوقع. اخترعتها ربة منزل ألمانية تُدعى ميليتا بينتز في عام 1908 ولا تزال الشركة التي أسستها تحمل اسمها حتى اليوم.
ظهر الإسبريسو لأول مرة في نفس الوقت تقريبًا، وتدريجًا تحول للمشروب الذي نعرفه اليوم في منتصف القرن العشرين. وانتشرت طريقة التحضير السريعة هذه في معظم أرجاء العالم — مع العمال المهاجرين الإيطاليين — أثناء القرن العشرين.
وعلى الرغم أن إثيوبيا منشأ شجرة البن، بيد أنه من الجلي أن القهوة كمشروب نشأت في شبة الجزيرة العربية. وهذا هو سبب تسمية سلالات القهوة الأكثر أهمية باسم البن العربي. فبفضل هؤلاء الشيوخ الصوفيين، يمكننا الآن جميعًا الاستفادة من الآثار المُحفِّزة لشجرة البن بالإضافة إلى الاستمتاع بمذاقها الرائع.
اسألنا
تحتاج مساعدة؟
موجودين لخدمتك
Leave a comment